ظهر كتاب" التهميش والمهمشون في مصر والشرق الأوسط" من تحرير حبيب عائب –راي بوش عن دار العين للنشر في خضم اندلاع الثورات العربية 2011-2012 (وربما تستمر في بلد أو تستأنف في آخر أو تنفجر دون سابق إنذار!)، والسودان والجزائر شاهدتين على ذلك. الكتاب مكون من ثلاثة أقسام، الأول: الهامشية، الفقر، والاقتصاد السياسي شارك به آصف بيات وراي بوش وريم سعد. والثاني: إنتاج وإعادة إنتاج الهامشية شارك به علي القادري وحبيب عائب ومشيرة الجزيري وداليا وهدان. والثالث: حالات من التهميش شارك به رباب المهدي وصقر النور وكمال فهمي وهبة هجرس وصوفي بافا.
ينطلق الكتاب من مقدمة كتبت مشتركة بين محرري الكتاب بعنوان" الهامشية والاستبعاد في مصر والشرق الأوسط" تقدم هذه الأوراق ، وهي ناتجة عن ورشة عمل عام 2009 ثم روجعت مجدداً بعد عام 2011، باعتبارها تحاول كشف الكثير من العمليات الضمنية التي أدت إلى جعل الطبقة وحراك العمال والفلاحين مركزية للغاية في ثورتي مصر وتونس.
وتقدم الأوراق كلها محاولة لقراءة الأحوال المؤدية إلى الثورة- بحسب الكتاب-،خاصة، كيف اعتمدت الثورة على المصريين الذين أفقروا بثروات خلقتها طبقة رأسمالية ثرية ومتواطئة ذات صلة بالحزب الوطني الديمقراطي الحاكم سابقاً. كما تشكف الحاجة الماسة لفهم أسباب النضالات التي أدت إلى الإطاحة بالسنوات الثلاثين من الحكم الديكتاتوري لحسني مبارك المخلوع، وفي ما يربو على عقدين من الحكم المتعسف لبن علي رئيس تونس المطرود.
وتتساءل هذه الأوراق عن مفهوم "الهامشية" الذي كان دائماً ما يستخدم لتفسير الطرق التي تم بها استبعاد بعض الناس – والذي ينظر إليهم عادة كأفراد، أو أجزاء من جماعات اجتماعية أو فئات متفرقة، وليس كجزء من طبقات اجتماعية- الذي تم استبعادهم أو دفهم بعيداً عن مراكز النمو أو التنمية. ويحسم الافتراض حقيقة أن الفئة الهامشية هي فئة الشباب، أياً كان انتماؤها الطبقي أو المهني أو الإيديولوجي أو الثقافي، وهي فئة تضامنية ظهرت تقود نفسها تدافع عن حق أساسي هو"كرامة الإنسان العربي" المهدورة. بغض النظر عن الجدل العقيم وراء انعدام القيادات بينها، وهي لم تكبر، أو منظمات (مؤسسات المجتمع المدني تعتمد عليها)، أو أحزاب ( الحركات الاجتماعية بديلاً عنها) .
كل مقالات الكتاب تستحق القراءة والنقاش غير أنني سأتوقف عند اثنتين منها، واحدة من القسم الأول : الهامشية: لعنة أم فرصة؟ لآصف بيات، وأخرى من الثاني : التراكم عن طريق الانتهاك في المشرق العربي لعلي القادري
الهامشية: المفهوم والمجرى
يتعدد مفهوم الهامشية، ومشتقاتها لغوياً واصطلاحياً : التهميش والمهمشون والهامشيون. غير أن الإجراء العملي أو التطبيقي يحدد التعريف حسب الدراسة. ففي مقالة آصف بيات يدرس الإنسان المهاجر من الريف إلى المدينة، فهو نوع ثقافي أو هجين ثقافي. إنسان على هامش ثقافتين ومجتمعين لم يحدث بينهما تداخل واندماج كامل. فالهامشي-بحسب بيات- هو مهاجر إلى المدينة، شخص يحتفظ بثقافته الأصلية، ولم يندمج اندماجاً كاملاً في المجتمع الجديد. فهو يحمل وعياً مزدوجاً بين الريف والمدينة.
وحين يناقش مفهوم الهامشية في سياق الاجتماع الحضري، فهو يرتبط بقيم الحداثة وضدها التقليد، لعبة الثنائيات والازدواجات، ما يجعل من الهامشية موقف وسلوك، ووجود يقف ضد أو بمعزل عن الأحوال المعاصرة- المؤسسات المعاصرة، والعقلانية، والدولة العصرية، والاقتصاد والسلوك والتفكير العصري.
وحين ترد على الذهن فئة الفقراء، باعتبارهم فئة واقع عليها فعل التهميش، فإنها ترى بقصد التهميش لا الهامش، لأنها فئة مستغلة اقتصادياً، ومقموعة سياسياً، وموصومة اجتماعياً، ومستبعدة ثقافياً من نظام اجتماعي مغلق. وتوسع مفهوم الهامشية ليضم فئات موسرة اقتصادياً غير أنها تعاني التهميش في المجال السياسي ( المعارضة أو الحركات الاحتجاجية)، أو في أساليب الحياة (الجماعات الاجتماعية أو الفئات المهنية)، أو في أوضاعهم كأعضاء لجنس معين، أو عرق، أو دين ، أو توجه جنسي.
ونرى مثلاً الصراع بين المذاهب أو الطوائف الدينية تدفع ثمنه بعضها وتتسلط أخرى فتصبح المستضعفة مهمشة، ويمكن أن نرى في الأقليات لسبب عرقي أو ديني فئات مهمشة لأسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية مثل الأرمن في لبنان أو الأكراد في سوريا أو الأمازيغ في المغرب أو الجزائر أو موريتانيا، أو الأفارقة والهنود في دول الخليج العربي، أو العرب اليهود في العراق أو اليمن كما يمكن أن نرى هناك تهميش جنوسي على مستوى الجنس مثل الاضطهاد أو العنف اللفظي والجسدي ضد المرأة، أو على مستوى توجه جنوسي عند المثليين والمثليات حيث يظل التهميش ضدهم أو ضدهن أكثر انتشاراً من تهميش الأقليات لأسباب دينية أو عرقية لأن أسباب الاندماج متعددة.
ويطرح بيات إمكانية أن تكون الهامشية فرصة لا لعنة. قد تكون موضع تحرر أو قوة بديلة. حيث يمكن أن يميل الهامشيون إلى التصرف بقدر الإمكان خارج حدود الدولة والمؤسسات البيروقراطية الحديثة، فيقيمون علاقاتهم على أساس التبادل، والثقة، والتفاوض لا على الأفكار الحديثة عن المنافع الذاتية للفرد والقواعد المحددة، والتعاقدات. وبهكذا يمكن أن يكون الهامش فرصة تتعلق بالمجالات الثقافية والاجتماعية على السواء.
إذن، الهامشية يمكن أن تقوم بعملية تسهيل عملية الإرجاء، والفرصة لتطوير ترتيبات اجتماعية بديلة، ومنظمات اقتصادية، وأساليب حياة، وسيطرة داخلية بقدر ما يمكن أن تتحول إلى مواقع خطرة، وقوة سلبية، وفوضى وقمع ممنهج. غير أن التحول المفهومي للهامشيين ثبت بأنهم الفئة الرافضة لتقاليد المجتمع والفاقدة لأي اهتمام ايجابي بالحياة والمستقبل أي أن الهامشي هو من لا يقبل بقيم الأنظمة السائدة على حد قول حواس محمد.
الاستعمار وتدمير التنمية
يقدم علي القادري عملاً إطارياً مهماً لفهم الأبعاد الإقليمية لإتعاس الشعوب وتحليل المفارقة الخاصة بالمنطقة: لماذا مع وجود كل هذه الثروات، خاصة، عوائد البترول يحكم على أكثر من نصف السكان بحياة الفقر ؟.إن تراجع التنمية لصالح إنتاج البضائع مع التركيز على قطاع البترول وأجهزة القمع الأمني لسياسات أنظمة حليفة للغرب هو امتداد لحقيقة أن الاستعمار هدفه تعرية شعوب العالم الثالث من السيادة على مواردها الطبيعية.
إذ يناقش القادري ما استخلص من كتابات تحليلية في العالم العربي تشكو من تعزيز دور إسرائيل في كشف الأمن القومي للأمم العربية مما يؤكد أيضاً دورها الحاسم المضاد للتنمية. ويؤدي نشر البؤس على الشعب العربي العامل إلى إضفاء الكثير من فقدان الأمن على المستوى القومي. فلا تصبح التنمية العربية ببساطة لتحسين أحوال الحياة، ولكن على الأرجح تعويض توازن القوى الإقليمي. والعامل الإسرائيلي وحده، مع النظم الغربية الحليفة والراعية، يفسر جزئياً علمية الهدم والتدمير للتشكيل الاجتماعي العربي ومنع قيام مشروع تنموي عربي.
وينتهي القادري إلى أن "الشعب العامل الذي هو سكان المشرق يرزح تحت تهديد عدوان مشترك بين أنظمته والقوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة". ولعلنا نرى في صور الإبادة الممنهجة أو القتل العمد الممنهج حين لا تفهم الأنظمة بمؤسساتها السيادية والأمنية القمعية، فتعادي الشعب وتبيده، وهي متمثلة في حالة مصر وليبيا والبحرين وسوريا واليمن أو حالة أي بلد لا يريد سماع صوت غير صوت النظام.
ويقترح القادري إلى أن العاملين عبر العالم عليهم" أن يشاركوا في نضال الشعب العربي من أجل الحريات المدنية، وأمن الطبقة العاملة، والسيادة التي تقوم على رفاهية الشعب". فإن الطبقة العاملة، التي يصل وعيها الثوري إلى ذروته في هذا المستوى الواضح من الإدراك، تعرف جيداً أن "العملية الثورية العربية لا يمكن أن تنتصر إلا بالتضامن العالمي".
تؤكد ثورات العرب الجدد والجديدة أنها تقفل بوابة ضخمة على أفكار ومبادئ وقيم بائدة تتعدد فيها الصراعات التي تبدأ من الفئوية العمرية والأسرية والاجتماعية، لتعبر المستويات الثقافية والاقتصادية حتى المجال السياسي الذي يدشن لعملية تطول أو تقصر بحساب ما سينشأ من منظومات ومفاهيم، ومؤسسات وجماعات، وهيكلة للدولة ومسؤولياتها، ومأسسة متجددة للفضاء المجتمعي والذهني والسلوكي تعد بالكثير وإنما تحتاج الكثير من التعلم والعمل والأهداف المعقولة بعد أن انكسر حاجز الخوف ضد الإرهاب الأمني القمعي، وأطيحت تلك الكراسي بسهولة لم تكن معهودة، واستردت كرامة عربية تتضمن فيها مجمع الحقوق المدنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وفي جيل مستقبلي سيغلب الطابع الكوني ليكون الدفاع عن حقوق الجنس البشري من مخاطر التطور المعلوميات والتكنولوجيا الحيوية.
روابط: